وهم النصر المطلق- نتنياهو وسياسة الهروب إلى الأمام

المؤلف: أحمد الحيلة10.27.2025
وهم النصر المطلق- نتنياهو وسياسة الهروب إلى الأمام

ما انفك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يكرر على مسامع الجميع، بإصرار وثبات، هدفه المتمثل في تحقيق "النصر الساحق" في حربه المستمرة على قطاع غزة المنكوب، وذلك على مدار الأشهر الثمانية الماضية دون هوادة. إلا أن هذا الخطاب المتفائل قد قوبل باستخفاف ورفض قاطع من قبل العديد من القيادات السياسية البارزة والشخصيات العسكرية الرفيعة في إسرائيل، والذين اعتبروا هذه التصريحات مجرد أضغاث أحلام وأوهام تراود نتنياهو.

الوزير في مجلس الحرب، غادي آيزنكوت، وجه انتقادات لاذعة لنتنياهو في التاسع والعشرين من شهر مايو/أيار، متهماً إياه بالوقوع في براثن الفشل الذريع على الصعيدين الأمني والاقتصادي جراء هذه الحرب الطاحنة، إضافة إلى "تسويق وهم النصر المطلق" للمواطنين الإسرائيليين. وأكد آيزنكوت أن "من يدّعي أننا سنقوم بتفكيك عدد من الكتائب في رفح، ومن ثم سنستعيد المختطفين، إنما يغرس أوهاماً كاذبة في نفوس الناس، لأن الوضع أكثر تعقيداً بكثير، ويتطلب من ثلاث إلى خمس سنوات لتحقيق استقرار ملموس، ثم سنوات عديدة أخرى لإرساء نظام حكم بديل في غزة".

السير وراء السراب

يدرك بنيامين نتنياهو تمام الإدراك أن الحرب لم تحقق الأهداف والغايات التي أعلن عنها منذ اللحظة الأولى، كما يدرك أيضاً أن المستقبل القريب يكتنفه الغموض والصعاب، وأن السيطرة عليه وتوجيهه نحو المسار الذي يصبو إليه أمر بالغ التعقيد، إن لم يكن مستحيلاً.

فمدينة رفح، التي توغل فيها جيش الاحتلال لتكون بمثابة الضربة القاضية التي تحقق "النصر المطلق" عبر القضاء على ما تبقى من كتائب القسام، ما زالت تشهد مقاومة شرسة وبسالة منقطعة النظير، حيث تتكبد قوات الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، بالتزامن مع معارك ضارية تدور رحاها في شمال القطاع، ولا سيما في منطقة جباليا التي شهدت عملية أسر وقتل عدد من الجنود، في مشهد أعاد إلى الأذهان ذكريات معركة السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المقاومة ما زالت قوية وفاعلة في جميع أنحاء القطاع.

هذا الفشل المُرتقب في رفح، دفع رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنيغبي للقول بمرارة: "نتوقع سبعة أشهر أخرى من القتال المضني لتعزيز إنجازاتنا المحدودة وتحقيق هدفنا المنشود المتمثل في تدمير القدرات العسكرية والحكومية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي". وأضاف محذراً: "يجب ألا نضع لأنفسنا جدولاً زمنياً محدداً أو نحدد مهلاً نهائية"، في إشارة واضحة إلى أفق زمني مفتوح يصعب التكهن بمساره أو نتائجه المترتبة عليه، وذلك بعد التجربة المريرة التي عاشوها على مدى الأشهر الثمانية الماضية، والتي أظهرت أن الزمن لم يعد حليفاً لهم في تحقيق "النصر المطلق".

إذن، فتحقيق الهدف المنشود، في نظر غادي آيزنكوت رئيس الأركان الأسبق والوزير الحالي في وزارة الحرب، سيستغرق سنوات طِوالاً وليس مجرد سبعة أشهر، ما يجعل حلم تحقيق "النصر المطلق" أشبه بالسراب؛ فكلما ظنوا أنهم اقتربوا منه، تبدد أمام أعينهم، لكن الأمل الكاذب الذي يراودهم يتجدد باستمرار.

هذا بالتحديد هو حال حكومة الحرب بقيادة نتنياهو، التي وعدت بالقضاء على حماس والمقاومة خلال الشهر الأول من المعركة، ثم بنهاية العام الماضي، ثم مع اجتياح مدينة خان يونس مطلع العام الجاري، وصولاً إلى مدينة رفح بعد سبعة أشهر من القتال المتواصل، وما زالت تطلق وعوداً جديدة بتواريخ مستقبلية تتراوح بين الأشهر والسنوات.

إن ما يفقد الاحتلال قدرته على وضع تقديرات زمنية أو أهداف عسكرية واقعية هو افتقاره للمعلومات الدقيقة عن قدرات كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية، التي تمثل صندوقاً أسود مغلقاً. وفي الوقت نفسه، اتسعت رقعة الصراع لتشمل الضفة الغربية والحدود اللبنانية وحتى اليمن والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، لتتحول المعركة إلى حرب استنزاف شاملة يغرق فيها الاحتلال تدريجياً، ويصبح الزمن عاملاً ضده. فقد انهارت روايته الكاذبة، وتآكلت شرعيته المزعومة، وازدادت عزلته الدولية بشكل غير مسبوق.

الشّخْصنة والسّياسة المؤدلجة

يدرك العديد من الوزراء في حكومة الحرب أن هذه الحرب وصلت إلى طريق مسدود، وأن إطلاق سراح الأسرى يجب أن يكون على رأس الأولويات، كما يرون ضرورة البحث عن أفق سياسي جديد لإدارة قطاع غزة بعيداً عن الاحتلال المباشر، لأنه سيشكل معضلة حقيقية لإسرائيل على كافة المستويات: العسكري والاقتصادي وعلى مستوى السمعة الدولية، وسيعرقل فرص التطبيع وإعادة تموضع إسرائيل في الشرق الأوسط.

إلا أن بنيامين نتنياهو لا يزال متشبثاً بموقفه المتصلب رغم كل هذه الحقائق، ويعود هذا الإصرار لأسباب شخصية وسياسية وأيديولوجية متجذرة لديه؛ فنهاية الحرب دون تحقيق "نصر مطلق" ستنهي مستقبله السياسي اللامع، وتحمله مسؤولية الفشل الذريع، وستضعه في مواجهة ملفات الفساد التي تلاحقه أمام القضاء العادل.

كما أن قناعته السياسية المتطابقة مع توجهات اليمين الصهيوني القومي المتطرف، والتي ترفض أي حل يقوم على أساس الدولة الفلسطينية المستقلة، وتدعو إلى ضم الضفة الغربية المحتلة إلى السيادة الإسرائيلية، ستتبخر كسراب في الصحراء بعد أن فقدت إسرائيل قدرتها على الردع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وعجزت عن استعادتها أو ترميمها طوال الأشهر الثمانية العصيبة التالية. ولذلك، يجد نتنياهو في سياسة العناد والهروب إلى الأمام ملاذاً آمناً ومخرجاً محتملاً له ولقناعاته السياسية الضائعة في خضم هذه الحرب.

يعيش نتنياهو حالة من التخبط والارتباك، فهو مزيج من "الأنا" المتضخمة والفكر الأيديولوجي المتطرف، ويرى نفسه ملكاً متوجاً على عرش إسرائيل وأحد أهم الشخصيات التاريخية. ومجرد تخيله لنفسه خارج السلطة أو في قفص الاتهام يثير لديه حالة من الرعب والفزع العميق، وهو يزداد عناداً وتشبثاً بالسلطة كلما استشعر اقتراب تلك النهاية، ويظن أن القتال هو المنقذ الوحيد له، ولا سيما مع حرج الإدارة الأميركية من سحب دعمها المطلق له، وإن مارست بعض الانتقادات التكتيكية لسلوكه، وذلك حتى لا تغضب اللوبي الصهيوني القوي قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة.

إن الانسياق الأعمى وراء هذه الأبعاد الشخصية والأيديولوجية لنتنياهو يشكل خطراً داهماً على إسرائيل، في ظل التراجع المتسارع لقدرتها على الردع، واستنزاف جيشها المنهك، وانهيار سمعتها المتآكلة، وتزايد عزلتها الدولية بعد القرارات القضائية الدولية الصادرة ضدها، ناهيك عن مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة بسبب هذه الحرب الاستثنائية في تاريخها.

إن استبعاد التفكير العقلاني الرشيد لصالح التفكير الرغائبي القائم على الأيديولوجيات المتطرفة لبعض قادة إسرائيل، وعلى رأسهم نتنياهو، سيأخذ إسرائيل بعيداً كل البعد عن تحقيق "النصر المطلق" المزعوم، ولا يستبعد أن تحمل الأشهر القادمة مزيداً من الإخفاقات الاستراتيجية لإسرائيل بسبب تراكم أزماتها الداخلية والخارجية.

يقول اللواء احتياط إسحق بريك: "إسرائيل لا تملك القدرة على الانتصار في الحرب ضد حماس أو حزب الله اللبناني، وعدم إنهاء هذه الحرب سيحولها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد تستمر لسنوات عديدة، وستؤدي في نهاية المطاف إلى انهيارها التام". ويضيف بحسرة: "الجيش الإسرائيلي صغير ومهترئ وليس لديه فائض في القوات، وكل يوم يستمر فيه القتال يزداد الوضع سوءاً وتعقيداً".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة